تعبير حول مهنة الخزّاف
كانت يداه مغطّاتين بالطين، تتحركان في انسجامٍ عجيبٍ، تلامسان العجينة اللينة بحنانٍ وصبرٍ كبيرين. كانت عيناه تتابعان كل حركة بدقة، وكأنّه يتحدث إلى الطين بلغةٍ لا يفهمها سواه. يدور الدولاب بسرعةٍ تحت قدميه، وقطعة الطين فوقه تتحول شيئًا فشيئًا إلى إناءٍ جميلٍ متناسق الشكل. كلما أضاف القليل من الماء، ازدادت العجينة طواعيةً ولينًا، فيشكل منها كوبًا أو جرة أو آنيةً تسرّ الناظرين.
ورغم التعب الذي بدا على وجهه، لم يفارق الابتسامة شفتيه، فقد كان يعمل بحبٍّ ورضا. وبعد أن أنهى تشكيل القطعة، حملها بحذرٍ كأنّه يحمل طفلًا صغيرًا، ثمّ وضعها في الفرن الترابيّ ليجفّفها من أثر الرطوبة. وبينما كانت النيران تشتعل، جلس الخزّاف يرتّب أدواته البسيطة: الإزميل والفرشاة وبعض الألوان. وما إن بردت القطعة، حتى بدأ يرسم عليها زخارف بديعة بألوانٍ زاهيةٍ تعكس جمال الطبيعة من حوله: أزهارًا، وطيورًا، وأشكالًا هندسية متناسقة.
كان المكان يفيض دفئًا وسكونًا، فلا يُسمع سوى صوت العجلة وهي تدور وصوت النار وهي تهمس في الفرن. شعرت وأنا أراقبه أني أمام فنانٍ حقيقي، يجمع بين قوة اليد ورقة الإحساس، ويحوّل الطين الجامد إلى تحفةٍ نابضة بالحياة.
عندما انتهى من عمله، رفع بصره إلى الإناء الذي صنعه، وارتسمت على وجهه ملامح الرضا والفخر. فقد كان يعلم أنّ ما بين يديه ليس مجرد طينٍ صُنع للزينة، بل قطعة من نفسه، من صبره وموهبته وذكرياته الطويلة مع هذه المهنة العريقة.
وهكذا أدركت أن مهنة الخزّاف ليست مجرد حرفةٍ بسيطة، بل هي فنٌّ عميقٌ يتطلّب حبًّا، وإبداعًا، وإخلاصًا. ومن خلاله يحافظ الناس على تراثهم الجميل الذي يربط الماضي بالحاضر، ويذكّرنا بأنّ اليد التي تعمل بإتقان قادرة على خلق الجمال من أبسط الأشياء.

0 commentaires
Enregistrer un commentaire