jeudi 4 décembre 2025

مدخل عام لمحور الحكاية المثليّة "كليلة و دمنة" لعبد الله بن المقفّع - أولى ثانوي

 مدخل عام لمحور الحكاية المثليّة "كليلة و دمنة" لعبد الله بن المقفّع - أولى ثانوي 

تُعدّ الحكاية المثليّة أو الخرافة الحيوانية من الفنون السردية العريقة التي عرفتها الحضارات الإنسانية منذ زمن بعيد، وقد بلغت أوج حضورها في الأدب العربي مع ترجمة عبد الله بن المقفّع لكتاب "كليلة ودمنة" في العصر العباسي. إنّ هذا الكتاب ليس مجرّد مجموعة قصص مسلّية، بل هو منظومة فكرية وفنية متكاملة، تُوظَّف فيها الحكاية الحيوانية لتقديم رؤى سياسية وأخلاقية واجتماعية بأسلوب رمزي مُحكم. ومن هنا تبرز أهمية دراسة هذا المحور بوصفه مدخلًا لفهم وظيفة الحكاية في الإقناع والنقد والإصلاح.

1- نشأة الحكاية المثليّة وسياقها

ظهرت الحكاية المثليّة في الهند قديمًا، ولاسيما في كتاب البنجاتنترا الذي يُعد أصل "كليلة ودمنة"، ثم انتقلت إلى الثقافة الفارسية قبل أن تصل إلى العربية بصياغة ابن المقفع. وقد مثّل هذا الانتقال تطوّرًا مهمًا في النثر العربي، إذ جعل هذا الفن يتجذّر في الأدب العربي ويصبح جزءًا من تراثه.

1. مفهوم الحكاية المثليّة

هي حكاية تُروى على ألسنة الحيوانات أو الطيور التي تتصرف بطريقة تشبه البشر قصد:

تقديم عبرة أخلاقية، أو نصيحة سياسية، أو حكمة اجتماعية، وذلك باستعمال الرمز والتلميح عوض الخطاب المباشر. إنّها شكل فني يُخفي الحقيقة وراء أقنعة الحيوان، فتُصبح الأفكار أكثر قبولًا، خاصة في سياقات الرقابة أو الخوف من المواجهة.

2. أهميتها ووظيفتها

تتميّز الحكاية المثليّة بقدرتها على:

التوجيه والإصلاح بطريقة هادئة وغير صدامية،
تقديم نقد اجتماعي وسياسي في قالب رمزي،
تبسيط التجارب الإنسانية عبر أمثلة واضحة،
تجاوز الرقابة التي قد يواجهها الكلام المباشر.
ومن ثمّ، فهي ليست للتسلية فحسب، بل أداة للتربية والتثقيف وإنتاج الحكمة.

2- مكانة كتاب "كليلة ودمنة"


يحتلّ كتاب "كليلة ودمنة" مكانة متميّزة في التراث العربي، لأنه يجمع بين جمال الأسلوب وعمق الفكر. فقد حافظ ابن المقفّع على الروح الحكَمية للنص الأصلي، وأضاف إليه من بلاغته وثقافته ما جعله كتابًا خالدًا.

1. خصائصه الفنية والفكرية

يقوم على حكايات متداخلة، حيث نجد قصة داخل أخرى، مما يعكس تشابك العلاقات الإنسانية.
يعتمد على إطار حكائي رئيسي بين الفيلسوف بيدبا والملك دبشليم، حيث تُساق الأمثلة بهدف إرشاد الملك.
يستخدم لغة رفيعة تجمع بين البساطة والبلاغة، وتكثر فيها الحكم والأمثال.
يمزج بين المتعة الفنية والفائدة الفكرية في أسلوب سلس وقريب من النفس.

وبهذا يصبح الكتاب أشبه بموسوعة في فن الحكم ومجتمع الناس وسلوك الملوك والوزراء.

3- البنية الفنية للحكاية المثليّة

1- الشخصيات الرمزية

الشخصيات الحيوانية ليست كائنات طبيعية بل رموز إنسانية، ومن أبرزها:

الأسد: رمز الملك أو السلطة.
الثور شتربة: رمز الصداقة والوفاء.
دمنة: رمز المستشار الفاسد والمنافق.
كليلة: رمز الحكمة والحذر.

الرمز هنا وسيلة لتجسيد صفات الإنسان وتجارب المجتمع دون إثارة غضب السلطات أو الأفراد.

2- البنية السردية (التضمين والتأطير)

تقوم الحكاية المثليّة على تقنية التضمين، أي قصّة داخل قصة، حيث تصبح كل حكاية مثالًا على الأخرى. أمّا التأطير فيتمثل في الحوار بين بيدبا والملك الذي يوجّه المسار العام للنص.

3- الأسلوب

يتسم الأسلوب بـ:

كثرة الحوار الذي يعكس صراع الأفكار،
اللغة الحكَمية الغنية بالأمثال،
البناء التعليمي الذي يجمع بين السرد والمتعة والدرس.

4- البنية الحجاجية – من الفكرة إلى الإقناع


تتميّز الحكاية المثليّة في "كليلة ودمنة" بأنها ليست سردًا خالصًا، بل نص حجاجي بامتياز. إذ تُوظّف مراحل محددة لإقناع المتلقي بفكرة معينة.

1- التصيحة المجرّدة

يبدأ الراوي أو بيدبا بطرح مبدأ عام أو فكرة مجرّدة تحتاج إلى البرهان، مثل: "لا ينبغي للملك أن يثق بالمنافقين" . هذا يفتح بابًا للسرد بوصفه دليلًا على صحة هذا الرأي.

2- الحكاية الموضِّحة

تأتي القصة لتجسيد الفكرة في مثال واقعي، فتُقدّم شخصيات حيّة وتجارب ملموسة، مثل علاقة الأسد بالثور ومكيدة دمنة.
وهنا يشتغل السرد كأداة لإضاءة المبدأ الأول.

 3- العبرة

بعد الحكاية تُذكر الخلاصة الأخلاقية التي تُبرز الدرس المستفاد، فتربط مباشرة بين الفكرة المجردة والقصة المروية.

4- الاستنتاج النهائي

يأتي أخيرًا الاستنتاج الذي يوجّه المتلقي نحو الموقف الصحيح، وهذا ما يجعل البنية الحجاجية متكاملة ومؤثرة.

5- توظيف الحكاية لخدمة وجهات النظر (كليلة – دمنة – بيدبا)

1- بيدبا

يستخدم الحكاية المثليّة لإقناع الملك بالحكمة والاعتدال. فهو يروي الأمثال كوسيلة للإصلاح دون مواجهة مباشرة، مما يعكس عمق تجربته السياسية.

2- دمنة

يوظّف الحجاج أيضًا، ولكن بطريقة مضلّلة تقوم على:

المقدمات الكاذبة والاستنتاجات الخاطئة وأساليب الإقناع الماكرة لينال ثقة الأسد ويوقع بينه وبين الثور. وهذا يبرز البعد «التربوي التحذيري» في النص.

3- كليلة

يمثل الصوت العاقل الذي يكشف زيف كلام دمنة، ويعيد التوازن داخل النص. فحجّته تقوم على الحكمة والنصيحة الصادقة.

6- القيم والدلالات المستخلصة من الكتاب

1- قيم سياسية

ضرورة اختيار المستشار الصالح.
خطر المنافق والحاسد في البلاط.
أهمية التثبت قبل إصدار الأحكام.
التحذير من الوشاية والفتنة.

2- قيم أخلاقية واجتماعية

قيمة الصدق والوفاء.
ضرورة التفكير قبل الفعل.
نبذ التسرّع والانفعال.
الحذر في العلاقات الإنسانية.

3- قيم معرفية

العقل أساس النجاة.
التجربة معلم أساسي للإنسان.
الحكمة ميراث الأمم، والحكايات مرآة للتجارب.

الخاتمة

إنّ الحكاية المثليّة كما قدّمها ابن المقفّع في "كليلة ودمنة" ليست نصوصًا حكائية بسيطة، بل هي فن رمزي يجمع بين الإمتاع والإقناع، وبين السرد والحجاج. فقد جعل الكاتب من الحيوان قناعًا فنيًا يُخفي وراءه نقدًا سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا، يهدف إلى تهذيب النفوس وإرشاد الحكّام وتربية المجتمع. ومن خلال دراسة هذا الكتاب ندرك كيف استطاع الأدب العربي أن يجعل من الحكاية وسيلة للفهم والحكمة، وأن يحوّل السرد إلى أداة إصلاح وتنوير تتجاوز الزمان والمكان.


0 commentaires

Enregistrer un commentaire