مقال أدبي حول محور التّجديد في الشّعر العربيّ في القرن الثّاني للهجرة - ثانية ثانوي
الموضوع :
لئن بدت مظاهر التجديد عند بشار محتشمة إلى حد ما، فإن أبا نواس كان أكثر منه جرأة على تجاوز الموروث الشعري . حلل هذا القول ابد رأيك فيه معتمدا شواهد دقيقة
المقدمة
يعدّ التجديد في الشعر العربي ظاهرة بارزة في القرن الثاني للهجرة، ظهرت مع مجموعة من الشعراء الذين تمرّدوا على أساليب القدماء، وحاولوا بناء رؤية شعرية جديدة تستجيب لروح العصر العباسي وما حمله من تحولات فكرية وحضارية. وفي هذا السياق يطرح القول القائل: «لئن بدت مظاهر التجديد عند بشار محتشمة إلى حدّ ما، فإن أبا نواس كان أكثر منه جرأة على تجاوز الموروث الشعري». هذا الحكم الذي يضع الشاعرين في كفّتي مقارنة يستدعي التحليل والتمحيص، إذ إن كلاهما حاول زحزحة قوالب الشعر الجاهلي والعباسي الأول، لكنّ التجربة عند أبي نواس تبدو أكثر حدّة وجرأة وقطيعة. فهل يصحّ هذا التقييم؟ وهل فعلاً كان تجديد بشار محتشماً مقارنة بجرأة أبي نواس؟
الجوهر
عند تأمل تجربة بشار بن برد نجد أنه من أوائل من حاولوا خلخلة البنية التقليدية للقصيدة العربية. فقد سعى إلى تجاوز الوقفة الطللية التي استهل بها القدماء قصائدهم، واستبدلها بمقدمات وجدانية مباشرة، مثل قوله:
«خليليّ ما بالُ الدجى لا تَزَحْزَحُ وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يتوضّحُ».
ورغم أنّ هذا الاستهلال يمثل خروجًا عن الطلل، فإنه لا يزال يحمل أثر الموروث من خلال نداء الخليلين، وهو ما يؤكد أنّ بشار كان يحاول التجديد دون أن يقطع الحبل مع التقليد.
أمّا أبو نواس فقد بدا أكثر عنفًا ووضوحًا في تجاوز الموروث. لم يكتفِ بالتخلّص من الوقفة الطللية، بل سخر من كل من يتمسّك بها، قائلاً:
«عاجَ الشقيُّ على رسمٍ يُسائلُهُ وَعَجْتُ أسألُ عن خمّارةِ البلدِ».
وفي موضع آخر يقول ممتعضًا من بكاء الشعراء على الأطلال:
«قُلْ لِمَن يبكي على رسمٍ درسْ واقفًا ما ضرّ لو كان جلسْ».
هذا الموقف يكشف أن أبا نواس لم يرفض الطلل فقط، بل رفض العقلية التي تنتجه، وشنّ حربًا ساخرة على كل من يواصل هذا النهج القديم.
وفي مستوى المعجم، نلحظ أنّ بشارًا استند إلى اللغة التقليدية لكنه وظّفها توظيفًا جديدًا، أمّا أبو نواس فقد رفض المعجم القديم في ذاته، واتخذه أحيانًا مادة للسخرية، كما في قوله:
«لِتِلكَ أَنكى ولا أبكي لمنزلةٍ كانت تَحُلُّ بها هِندٌ وأسماءُ».
فهو لا يرفض المكان فقط، بل يرفض معجم العشق الصحراوي كله، بل ويقدّم بديلًا حضريًا يتغذّى من الثقافة العباسية المتنوّعة. ويظهر هذا التفاعل الواضح مع الثقافة الجديدة في بيت آخر يقول فيه ساخرًا من المتفلسفين:
«قُلْ لمن يدّعي في العلمِ فلسفةً... ».
إن حضور العقل العباسي، والترف الحضاري، والخمر، والجواري، والمدينة، والمجون، يبدو واضحًا في شعره أكثر من ظهوره عند بشار.
وتتجلّى مظاهر التجديد كذلك في مستوى الصورة الشعرية. فقد حافظ بشار على كثير من الصور التقليدية، مثل صورة الليل الذي يصوَّر مظلمًا مخيفًا، بينما جعل أبو نواس الليل صديقًا يوفّر له الأمان والسرور:
«وللليلِ جلبابٌ علينا وحولَنا فما إن ترى إنسًا ولا جنًّا».
فالصورة هنا مقلوبة بالكامل: الليل لم يعد مصدر خوف، بل غطاء يحمي ويُخفي جلسات الشراب.
أما صورة المرأة، فقد بقيت عند بشار قريبة من الصورة الكلاسيكية: معشوقة جميلة، رقيقة، لها أسماء متعددة: عبدة، سعدى، حبى… وهي صورة تحافظ على منطق العاشق الضعيف أمام فتاته. في المقابل، اختفى حضور المرأة المتغزَّل بها تقريبًا عند أبي نواس، وحلّت محلها الخمرة، فأصبحت هي “العروس” التي يعيش لها ويموت من أجلها. لم تعد المرأة مركز القول، بل أصبحت ساقية أو خادمة، بينما احتلّت الخمرة موقع الموصوف المركزي.
وعلى مستوى الأغراض، فإن الغزل عند بشار يكاد يبقى في دائرة التقليد، يحافظ على معاني الجمال والرقيب واللوعة، بينما فجّر أبو نواس الخمريات، وبنى عالمًا جديدًا قائمًا على اللذة والنشوة والهروب من القيم الاجتماعية المتشددة. إن هذا الانقلاب في الغرض الشعري نفسه يعد من مظاهر الجرأة الكبرى التي جعلت أبا نواس يتجاوز الموروث بوضوح أشدّ من بشار.
غير أنّ الحكم القائل بأن جرأة بشار كانت محتشمة يستحق النظر. فالغزل ليس الخمر، والمرأة ليست كالخمرة. فالشاعر الغزلي يرتبط بكائن حيّ، يشعر ويتأثر ويتفاعل، لذا يختلف موقفه عن موقف من يخاطب شيئًا جامدًا هو الخمرة. يقول بشار:
«قالت: أكلُ فتاةٍ أنت خادعها بشعرك الساحر الخلاب للعربِ».
هذا الحوار يكشف أن تجربة الغزل تقيّد الشاعر وتجعل تجديده محسوبًا. أمّا أبو نواس فكان يتعامل مع غير العاقل، لذا كانت حرّية القول عنده أوسع، والتجاوز أسهل.
وإذا عدنا إلى شهادات النقاد القدامى، نرى أنّ بشارًا وُصف بـ«زعيم المحدثين»، وهو صفة لا تمنح عادة لمن كان تجديده محتشمًا. كما أنّ الناس رأوا في تجديده خطرًا إلى درجة أنّ شعره كان سببًا في نهايته، بينما لم يتحمّل المجتمع العباسي شعر أبي نواس فقط، بل احتفى به في بعض الفترات. فهذا يُضعف القول بأن جرأته أقلّ قيمة.
الخاتمة
إن حركة التجديد في القرن الثاني للهجرة كانت محاولة جادّة لإحياء الشعر العربي وبثّ روح جديدة فيه، وقد ساهم بشار وأبو نواس معًا في هذا المسار، لكنّ التجربة النواسية كانت بالفعل أكثر جرأة وقطيعة وانقلابًا على الموروث من تجربة بشار، رغم أنّ ريادة التجديد تعود إلى هذا الأخير. ومع ذلك، فإنّ هذا التجديد لم يصمد طويلًا، وسرعان ما عاد الشعراء في القرون اللاحقة إلى نماذج الشعر القديم ضمن ما عُرف بالكلاسيكية الجديدة، وخاصة مع المتنبي.
وعليه، فإن مقارنة الشاعرين تكشف أنّهما معًا أعلام التجديد، غير أنّ جرأة أبي نواس تبدو أوضح، بينما يبقى بشار رائد التجربة ومسلك الطريق لمن جاؤوا بعده.

0 commentaires
Enregistrer un commentaire