فرض انشاء مع الإصلاح حول محور الفنون - 9 أساسي
الموضوع :
ببينما كنتُ أتابع مع صديقي عرضًا موسيقيًا، عبّر عن إعجابه قائلاً إن الفن وسيلة للتسلية والترفيه، فابتسمتُ وقلت له إنّ للفن رسالة أعمق، فهو يعبر عن مشاعر الإنسان وينقل قضاياه، ويغرس في النفوس القيم السامية. انقلْ الحوارَ الذي دارَ بينكما مركزا على الحججِ والشواهدِ التي اعتمدتها.
المقدمة:
الفنّ مرآةُ الإنسان وروحه، وهو اللغة التي تجاوزت حدود الزمان والمكان لتعبّر عن مكنونات النفس وما يجيش في الوجدان من مشاعر وآمال وآلام. إنه موهبة سامية أودعها الله في الإنسان ليرتقي بها عن الماديات، وليعبّر من خلالها عن ذاته وعن رؤيته للحياة. غير أنّ النظرة إلى الفن تختلف من شخصٍ إلى آخر؛ فالبعض يراه وسيلةً للترفيه والتسلية فحسب، في حين يرى آخرون فيه رسالة سامية وأداةً للبناء والتثقيف والرقي الإنساني.وقد دار بيني وبين صديقي حوارٌ شيّق حول هذا الموضوع، حين كنّا نتابع عرضًا موسيقيًا مساء الأحد في منزلي، فأبدى إعجابه بالموسيقى معتبرًا أنها وسيلةٌ للمتعة لا غير، بينما رأيتُ أنا فيها رسالةً أعمق وأهدافًا أنبل. فكيف استطعت أن أغيّر رأيه؟ وبأيّ الحجج والشواهد أقنعته؟
الجوهر:
كنّا جالسين في غرفة المعيشة أمام شاشة التلفاز نتابع عرضًا موسيقيًا راقٍ شدّ الأنظار بأنغامه وإيقاعاته، فالتفت إليّ صديقي وهو يبتسم قائلاً:
"ما أجمل الموسيقى! إنها أروع وسيلةٍ للتسلية، تزيل الهم وتبدد الضيق وتمنحنا راحةً ومتعةً لا مثيل لهما. أستمع إليها حين أشعر بالملل أو القلق، فهي خير ما يملأ أوقات الفراغ!"
ابتسمتُ له وقد راودني شعورٌ بالدهشة، إذ بدا لي أنه ينظر إلى الموسيقى نظرة سطحية لا تتجاوز المتعة اللحظية، فقلتُ له في هدوءٍ ورويّة:
"يا صديقي، لا أنكر أن للموسيقى أثرًا مبهجًا في النفس، ولكن هل يعقل أن نحصرها في التسلية فقط؟ إنّ الفن، وخاصة الموسيقى، أعمق من ذلك بكثير. إنها لغةٌ عالميةٌ تتجاوز الحواجز، تخاطب القلب مباشرة وتترجم ما تعجز الكلمات عن قوله."
ثم واصلتُ حديثي موضحًا:
"الموسيقى يا صديقي ليست مجرد أنغام تُطرب الأذن، بل هي غذاءٌ للروح وشفاءٌ للنفس، تُلهِم الفنان، وتُهدّئ الأعصاب، وتمنح السكينة والاتزان. ألم تسمع بقول العالم ابن سينا: «من مسكنات الأوجاع ثلاث: المشي الطويل، والغناء الطيب، والانشغال بما يفرح الإنسان»؟ فقد أدرك العلماء منذ القدم أنّ للموسيقى قدرةً علاجية، إذ تُحفّز الدماغ على إفراز مادة الأندروفين التي تُخفّف الألم وتبعث على الارتياح."
تأمّل صديقي كلامي، لكنّي واصلتُ قائلاً:
"وليس ذلك فحسب، فالموسيقى اليوم أصبحت علاجًا نفسيًا معترفًا به في المستشفيات، لما لها من قدرةٍ على تهدئة الأعصاب ومقاومة الاكتئاب والإدمان. وقد قال الطبيب لوتر: «إن مفعول الغناء والموسيقى في تهدئة الأعصاب أقوى من المخدرات».
أما أنا، فكلما استمعت إلى موسيقى راقية، شعرتُ بأنني أتحرر من همومي وأحزاني، وكأن النغمات تفتح أمامي أبواب عالمٍ أرحب، يملؤه الأمل والصفاء."
ثم أضفتُ متسائلًا:
"وهل تعلم يا صديقي أن للموسيقى أثرًا حتى على الأم الحامل وجنينها؟ فقد أثبتت الدراسات أن سماع الحامل للموسيقى الهادئة يُخفف آلامها، ويقوّي ارتباطها بطفلها، بل إن الجنين يبدأ بالتمييز بين النغمات منذ الشهر الرابع. ولهذا تنظم بعض المدن كـروما حفلات موسيقية للحوامل لما فيها من راحةٍ نفسيةٍ وعاطفية."
ابتسم صديقي متأملًا، لكنني لم أتوقف، بل أردفتُ:
"وحتى الأطفال، يا صديقي، للموسيقى دورٌ عظيم في تربيتهم وتنمية ذوقهم. فمنذ القدم كانت الأمهات تُغنين لأطفالهن ليناموا بسلام، واليوم أثبت التربويون أنّ الموسيقى تساعد على تنمية التوافق الحركي والعقلي، وتُنمّي مشاعر الطفل، وتجعله أكثر توازنًا وانفتاحًا على الحياة. بل إنّها وسيلة تعليمية فعّالة تساعد على التركيز وتقوية الذاكرة، وقد أوصت مؤسسات تربوية ألمانية باستعمال الموسيقى الهادئة أثناء المذاكرة لأنها تُحفّز المخّ وتنشّط القدرات الذهنية."
هزّ صديقي رأسه وقال:
"أعترف بفضل الموسيقى على الفرد نفسيًا وتربويًا، لكنّ أثرها لا يتجاوز حدود الشخص الواحد، أما على المجتمع فلا أرى لها فائدة تُذكر."
ابتسمتُ عندها قائلاً:
"بل على العكس، يا صديقي، فحين يسمو الفرد يسمو المجتمع بأسره. أليست الأمم العظيمة تُقاس بمستوى فنونها؟ فالفن هو روح الحضارة وذاكرتها الحيّة، ولولا الفن لما عرفنا عظمة المصريين القدماء من خلال أهراماتهم، ولا ذوق الإغريق من خلال معابدهم، ولا عبقرية العرب من خلال شعرهم وغنائهم.
لقد كانت الموسيقى دائمًا أداةً لتوحيد الشعوب ونشر قيم الخير والسلام. فموسيقى الجاز مثلاً وُلدت من رحم المعاناة لتصرخ ضدّ التمييز العنصري، والأناشيد الوطنية تغرس حبّ الوطن في القلوب وتبعث روح التضحية والفداء. بل إن الموسيقى كانت تُستخدم في الحروب لبثّ الحماسة في قلوب المقاتلين. وهل ننسى قول نيتشه: «لولا الموسيقى لكانتْ الحياةُ خاطئةًأً»؟"
ثم تابعتُ بنبرةٍ تأملٍ عميق:
"الفن يا صديقي ليس زينةً ولا لهواً، بل هو نشاطٌ إنسانيّ عظيم يُعبّر عن قدرة الروح البشرية على تسجيل وجودها في هذا العالم، كما قال الفيلسوف آلان: « ليسَ الفنُ مجردَ زينةٍ أوْ حليةٍ أوْ مجردٍ لهوَ ولعبَ بلْ هوَ نشاطٌ إبداعيٌ يعبرُ عنْ قدرةِ الروحِ البشريةِ على تسجيلِ نفسها في صميمِ العالمِ الخارجيِ». فبفضل الفن يتعلّم الإنسان الرقة والرحمة، ويبتعد عن القسوة والحقد، ويصبح أكثر حبًّا للحياة وتقديرًا للجمال."
سكتُ لحظةً ثم ختمتُ حديثي قائلاً:
"الفنّ هو النبع الذي يروي قلوبنا في زمنٍ جافٍ من المشاعر، هو تلك الشعلة التي تُضيء دروبنا المظلمة، فلا رقيّ دون فنّ، ولا حياة دون جمالٍ وإبداعٍ يُحيي أرواحنا."
الخاتمة:
ابتسم صديقي بعد صمتٍ طويل وقال بإعجاب:
"لقد أقنعتني يا صديقي، فالموسيقى حقًا ليست لهوًا، بل هي غذاءٌ للروح ورسالةُ حبٍّ وسلامٍ."
سعدتُ حينها بأنني استطعتُ أن أبدّد غشاوة الفهم الضيّق عن الفن، وأدركتُ أنّ رسالتنا نحن الشباب أن نحافظ على الفن الأصيل الراقي الذي يسمو بالذوق وينير العقول. فالفنّ الحقيقيّ هو ذاك الذي يجعل الإنسان أكثر إنسانية، ويمنح الحياة لونًا ومعنى، كما قال الشاعر معروف الرصافي:
"لقد أقنعتني يا صديقي، فالموسيقى حقًا ليست لهوًا، بل هي غذاءٌ للروح ورسالةُ حبٍّ وسلامٍ."
سعدتُ حينها بأنني استطعتُ أن أبدّد غشاوة الفهم الضيّق عن الفن، وأدركتُ أنّ رسالتنا نحن الشباب أن نحافظ على الفن الأصيل الراقي الذي يسمو بالذوق وينير العقول. فالفنّ الحقيقيّ هو ذاك الذي يجعل الإنسان أكثر إنسانية، ويمنح الحياة لونًا ومعنى، كما قال الشاعر معروف الرصافي:
"واجعلْ حياتكَ غَضَّةً بالشِّعرِ والتمثيلِ والتصويرِ والموسيقى تلكَ الفنونُ المشتهاةُ هيَ التي غُصنُ الحياةِ بها يكونُ وريقا."

0 commentaires
Enregistrer un commentaire