مقال حول شعر الحماسة مع الإصلاح
نص الموضوع: حرص شعراء الحماسة في القرنين الثالث و الرابع للهجرة على توخي طرائق متنوعة في تحديد ملامح بطل لا يقهر حولوه إلى رمز يجسد قيمهم المشهودة
حلل هذا القول معتمدا ما درست ...
المقدمة
مثّلت الحماسة في الشعر العربي مدرسة فنية وفكرية هدفت إلى تمجيد البطولة ورفع شأن القادة والأبطال في زمن الأزمات والانكسارات. وقد لمع شعراء كبار في هذا المجال مثل أبي تمام والمتنبي وابن هانئ الأندلسي، فحوّلوا البطولة من حدث واقعي إلى رؤية فنية سامية تجسّد طموح الأمة في التحرّر واستعادة الأمجاد. ولأنّ الأمة عاشت خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة اضطرابات وصراعات سياسية وعسكرية، فقد كان من الطبيعي أن يكون الشعر صوتها وصرخة قوتها. وهنا يطرح السؤال: ما ملامح البطل في شعر الحماسة؟ وكيف نجح الشعراء في أن يجعلوه رمزًا خالدًا يتجاوز حدود الزمان والمكان؟
الجوهر
تميّز شعراء الحماسة بقدرتهم على تخليق بطلٍ خارق يجمع بين القوة المادية والهيبة الروحية. فالبطل عندهم ليس جنديًا عاديًا، بل فارس استثنائيّ يستطيع تجاوز حدود الواقع، يمتلك قدرات تفوق طاقة البشر، يواجه الموت بثبات، ويعبر ساحات القتال بثقة وإيمان، فلا يهاب كثرة الجيوش ولا ضراوة الحديد.
وقد بلغ تصوير البطولة حدّ الأسطورة، إذ تجاوز الشعراء الوصف الواقعي نحو عالم تخييلي تتحوّل فيه الوقائع إلى مشاهد إعجازية. فها هو أبو تمام في قصيدته في مدح المعتصم يرسم معركة يختلط فيها الليل بالنهار وتضطرب عناصر الطبيعة رهبة من البطل:
ضوءٌ من النارِ والظلماءُ عاكفةٌ وظلمةٌ من دخانٍ في ضُحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد افلت و الشمس واجبة من ذا و لم تجب
إنها صورة لا تُظهر البطل محاربًا فقط، بل سيدًا للزمان والمكان، حتى كأن قوانين الكون تنحني أمامه.
وسار المتنبي على النهج نفسه، لكنه أضاف بعدًا سرديًا جعل من قصيدته مسرحًا تتحرك فيه الشخصيات وتتوالى فيه الأحداث. فهو لا يكتفي بوصف لحظة النصر، بل يرافق البطل من لحظة الاستعداد إلى لحظة رفع راية الغلبة، فيتتبع الجيش والخيل والسيوف والخصوم، ليقدّم بطولة تنمو وتتشكّل عبر مسار كامل. وهكذا غدا سيف الدولة عنده صورة للملك المثالي الذي يليق بمفاتيح القلعة والمجد والسلطان، قادر على طرد الأعداء واستعادة الأرض وصيانة الدين.
ولا يكتمل البناء الشعري دون الإيقاع، فقد استعان الشعراء بالجرس القويّ والحروف الصلبة والتكرار ليحيلوا صوت الحرب وصليل السيوف وصهيل الخيل إلى موسيقى ملحمية تهزّ النفوس وتبعث العزيمة في القلوب. فكان الإيقاع تجسيدًا للقوة في المعنى واللفظ معًا، يحتفي بالبطل ويشارك في صنع هالته.
ولم تكن البطولة في هذا الشعر جسدية فقط، بل ارتبطت بالقيم الدينية والأخلاقية. فالبطل حامل لواء الإسلام، حامي الحمى، نصير الحق، لا يسعى لمجد شخصيّ بل لرفعة الأمة ونصرة العقيدة. وهكذا تحوّل إلى رمز سامٍ للفداء والوفاء والشجاعة والإيمان، وأصبح قدوة تتطلّع إليها النفوس في زمن الانكسار.
الخاتمة
إنّ صورة البطل في شعر الحماسة لم تكن مجرد ترف فني أو خيال شعري، بل مشروع نهضويّ هدفه إحياء روح الأمة وبعث الأمل فيها زمن المحن. لقد خلق الشعراء أبطالًا جمعت بين المجد والقوة والفضيلة، وجعلوهم رموزًا تتجاوز حدود الزمن، تشهد على أنّ العرب والمسلمين لم يقبلوا الهزيمة قط، وأن تاريخهم قائم على مقاومة الانكسار واستعادة المجد. وهكذا ظل شعر الحماسة مرآةً لعظمة الروح العربية، يحفظ قيم البطولة والشرف، ويغذّي في النفوس الإيمان بقدرة الأمة على النهوض مهما اشتدت العواصف .
.png)
0 commentaires
Enregistrer un commentaire